کتب المدرس في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بولاية نيوجرسي، عبدالحمید صیام في مقال حول العنصرية للكيان الصهيوني :
تغريني دائما المقارنة بين ما جرى لسكان جنوب افريقيا الأصليين على يد الأقلية البيضاء، التي قننت نظام الفصل العنصري رسميا منذ عام 1948 وحتى انهيار ذلك النظام البغيض عام 1994، وما يجري في فلسطين المحتلة من نظام تعلم من جنوب افريقيا العنصرية، وتفوق عليها بعشرات المرات.
كنت منبهرا بنضال الشعب في جنوب افريقيا وأشارك في مظاهرات ضد بعثة تلك البلاد في نيويورك أيام سنوات الدراسة في أواسط السبعينيات، عندما كانت جامعة نيويورك التي كنت طالبا فيها بؤرة ناشطة للنضال ضد الفصل العنصري، بالإضافة إلى جامعات كولمبيا وكلية هنتر وجامعة مدينة نيويورك، لوجود عدد كبير من الطلاب من أصول افريقية وأقليات عرقية وأطياف يسارية. وتابعت سنوات الثمانينيات عند تجميد عضوية جنوب افريقيا في الجمعية العامة، وانتشار حركة التضامن العالمية، التي أطلق عليها «حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات»(BDS)، والتي غيرت المعادلة بعد أن بدأت الشركات ثم الدول تنضم لها. ظلت بريطانيا «ثاتشر» وأمريكا «ريغان» على صلفهما بعدم الانضمام للحركة إلا في أواخر أيامهما عام 1988 عندما بدأ نظام الأبرثهايد يترنح ويتهاوى، بعد سقوط رئيس الوزراء بيك بوثا ومجيء فردريك دي كليرك، الذي عاصر انهيار النظام كليا عام 1994 وحاز جائزة نوبل مناصفة مع مانديلا عام 1993.
التجربة نفسها (BDS) نقلها الفلسطينيون حرفيا إلا أنها تواجه معارضة شديدة من الدول الغربية المنافقة، بل تتهم الحركة بأنها معاداة للسامية، وسنت القوانين لتحريمها في بلد مثل ألمانيا، وفي 26 ولاية أمريكية. وهذا اعتراف ضمني بفعالية هذا السلاح السلمي والقانوني، الذي بدأ يخترق الشركات والبلديات والعديد من الجامعات. قمت بثلاث زيارات لجنوب افريقيا المحررة من نظام الأبرثهايد. عام 2001 للمشاركة في مؤتمر مناهضة العنصرية والتمييز العنصري في مدينة ديربان، ثم عدت إلى البلاد عام 2002 للمشاركة في مؤتمر التنمية المستدامة في مدينة جوهانسبيرغ.
أما الزيارة الثالثة فكانت عام 2012 بعد مغادرتي المنظمة الدولية، حيث دعيت من معهد «مركز حل النزاعات» في مدينة كيب تاون للمشاركة في لقاء حول القضايا الافريقية المطروحة على جدول أعمال الأمم المتحدة. لقد كانت فرصة للتعلم ومعاينة نظام الفصل العنصري على الأرض. صحيح أن نظام الفصل العنصري أسدل الستار عليه رسميا، لكنه ظل موجودا على أرض الواقع. فمدن الصفيح والكانتونات وأحزمة الفقر ما زالت منتشرة في البلاد، ومناطق الأغنياء من البيض ما زالت قائمة، دون أن يدخلها السود ومحلات الجواهر الثمينة، خاصة الماس لا تخرج من أيدي ملاكها البيض.
صحيح أن الوظائف الحكومية أصبحت في غالبيتها من نصيب السود، لكن الاقتصاد يكاد يكون ملكا حصريا للبيض. الشواطئ والأسواق والحدائق العامة والأماكن العامة ترى الاندماج فيها واضحا، رغم أن هناك يافطات قديمة على بعض الشواطئ كتب عليها «للبيض فقط» تركت كنوع من الذكرى، كما تحول سجن مانديلا في جزيرة روبن قرب مدينة الكيب إلى معلم سياحي مهم يؤمه ملايين الزوار. لقد أدرك نيلسون مانديلا بحصافته العميقة أن أي تهديد للأقلية البيضاء، يعني انهيار الاقتصاد في البلاد وهجرة رؤوس الأموال وهروب الخبرات والكفاءات العلمية والاقتصادية والفنية، ما يعني بكل بساطة انهيار البلاد وتحولها إلى دولة فاشلة على طريقة موغابي في زمبابوي، الذي استولى على أملاك الأقلية البيضاء وانتهت البلاد إلى أكبر كارثة اقتصادية في القارة الافريقية. استطاع مانديلا أن يضع جنوب افريقيا على الطريق السليم لبناء دولة واحدة موحدة يحكمها التسامح لا الثأر، والعفو وليس النسيان، والمحبة وليس الحقد والانتقام. لكنها كأية دولة انتقلت من مرحلة التحرر الوطني إلى مرحلة بناء الدولة العصرية ذات النظام الديمقراطي، لا بد أن تواجه العديد من العقبات والتحديات.
لما انتصرت ثورة جنوب افريقيا وقفت تلك الدولة وما زالت مع فلسطين. وقال مانديلا قولته المشهورة: «إننا نعرف جيدا أن حريتنا تظل ناقصة دون حرية الفلسطينيين»
الأبرثهايد الإسرائيلي
الكيان الصهيوني جمع القباحة في نظامه من جميع أطرافها، الأبرثهايد، والحصار والاحتلال والتطهير العرقي والمجازر والاعتداءات التي لا تتوقف. الفرق أنهم يريدون الأرض خالية من سكانها وهم ليسوا أقلية كالبيض في جنوب افريقيا بعد أن هجروا بالقوة ثلاثة أرباع الشعب الفلسطيني، ولكي ينفذوا مشروعهم القائم على دولة يهودية فقط، يمارسون ليس فقط الفصل العنصري بل كل أنواع الانتهاكات التي تخطر أو لا تخطر على بال. قطاع غزة يتعرض لحصار شامل من البر والجو والبحر، والضفة الغربية تمارس إسرائيل فيها الاحتلال المباشر والحصار والفصل العنصري والعقوبات الجماعية واستخدام القوة المفرطة، وفي القدس تمارس كل تلك الجرائم إضافة إلى التهويد الشامل، وسحب الهويات المقدسية، والاقتلاع المتواصل ونشر البؤر الاستيطانية واقتحام الأقصى والاعتداء على الكنائس والمساجد والمقابر والجنازات.
أما داخل فلسطين التاريخية فالوجه الأبشع هو الأبرثهايد والممارسات العنصرية، بما في ذلك منع الفلسطينيين من السكن في مناطق يهودية، والتمييز في المعاملة والوظائف العمومية، ورخص البناء والتعامل مع الجريمة والمخدرات واللغة وحتى إنكار الوجود، فما معنى أن يتم تعريف الدولة بأنها يهودية ولا يسمح بممارسة حق تقرير المصير من البحر إلى النهر إلا لليهود، فهل هناك عنصرية أكثر فاشية من هذا القانون الذي أقره الكنيست. لم تعد إسرائيل قادرة على إخفاء طبيعة نظام الفصل العنصري الذي تسير على هديه.
وقد صدرت خمسة تقارير مهمة لتوثيق نظام الأبرثهايد، ابتداء من تقرير لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (إسكوا) الذي صدر عام 2017 وتحت الضغط قام الأمين العام أنطونيو غوتيريش بالتبرؤ منه، ما اضطر ريما خلف الاستقالة من رئاسة الإسكوا، مرورا بتقارير منظمة العفو الدولية، وهيومان رايتس ووتش وبتسيلم، وصولا إلى تقرير فرنشيسكا البانيز، مقررة حقوق الإنسان المعنية بالأرض الفلسطينية المحتلة. لكن المجتمع الدولي الذي وقف شبه موحد في مناهضة الفصل العنصري في جنوب افريقيا، ما زال يتردد في وصف إسرائيل بأنها تسير على نظام الفصل العنصري ويتحاشى كل المسؤولين الدوليين ذكر هذا المصطلح خوفا من ردود الفعل.
بين النظامين في جنوب افريقيا والكيان الصهيوني
بدأت العلاقة رسميا بين جنوب افريقيا والكيان الصهيوني حتى قبل إعلان قيام الكيان، فقد كان الحزب الوطني يريد أن يستميل الجالية اليهودية (البيضاء) التي تعود في جذورها إلى دول أوروبا الشرقية، إلى جانب الحزب لدعمه في انتخابات 26 مايو 1948. كان عدد اليهود يصل إلى نحو 200000 يملك الكثير منهم مفاصل مهمة في الصناعات المحلية والتجارة والزراعة. وبعد الانتخابات التي فاز فيها الحزب الوطني احتفلت الجالية اليهودية بالانتصار. وكان رئيس الوزراء الجديد جان سمتس سابع رئيس حكومة يعترف بإسرائيل. وبعد استقالته خلفه دانيل فرانسو مالان الذي بالغ في تمتين علاقات جنوب افريقيا بإسرائيل، وكان أول زعيم من دول الكومنولث البريطاني يقوم بزيارة ودية للكيان. كما سمح للمنظمات الأهلية اليهودية تحويل مبالغ طائلة معفية من الضرائب لإسرائيل. وتابعت حكومات جنوب افريقيا المتعاقبة السير على الطريق نفسه حتى نهاية النظام.
كانت العلاقات متينة واستراتيجية بين النظامين في كل المجالات، بما فيها البحوث والتجارب النووية. الصهيوني بيرسي يوتار المدعي العام في محاكمة نيلسون مانديلا عام 1960، برز بشكل كبير وكوفئ على خدماته وعين قاضي القضاة بمرتبة وزير العدل. استمرت العلاقات تتوسع وتتشعب، خاصة في السبعينيات بعد قيام عدد كبير من الدول الافريقية بقطع علاقاتها مع إسرائيل، بسبب العلاقات الحميمية مع نظام الفصل في جنوب افريقيا. فإسرائيل الوحيدة التي لم تلتزم بالعقوبات التي فرضتها الأمم المتحدة إلى أن انهار نظام الأبرثهايد كليا عام 1994. الفرق بين النظامين أن غالبية الشعب في جنوب افريقيا كان من السود، فلم تتمكن الأقلية من الاستمرار في نظام السيطرة والتمييز والتهميش. دول الطوق المحيطة بجنوب افريقيا لم تطعن ثوة الشعب في ظهرها، كما فعل العرب مع فلسطين.
أما السبب الثالث فهو أن القيادة في جنوب افريقيا لم تهادن ولم تساوم على تجميل أو تخفيف نظام الأبرثهايد. وقد عرض دي كليرك على مانديلا أن يخرجه من السجن مقابل إعلان رسمي بإنهاء الكفاح المسلح فقال له: «أتريدني أن أساوم على حرية شعبي بحريتي الشخصية. عندما نحدد يوم الانتخابات العامة: «لكل شخص صوت واحد» يومها سأعلن انتهاء الثورة المسلحة». وهكذا كان، فهل يمكننا أن نتعلم شيئا من تلك الثورة العظيمة، التي وقفت معها منظمة التحرير والعديد من الفصائل الفلسطينية قبل الاستقلال، ولما انتصرت ثورة جنوب افريقيا وقفت تلك الدولة وما زالت مع فلسطين. وقال مانديلا قولته المشهورة: «إننا نعرف جيدا أن حريتنا تظل ناقصة من دون حرية الفلسطينيين».
المصدر: القدس العربي
انتهی**1426