وقد دلّت على التطور الجديد في هذه العلاقات رسالة من رئيس وزراء الكيان الصهيوني بنيامين نتنياهو الى الملك المغربي محمد السادس، يعترف فيها بسيادة المغرب على إقليم الصحراء المتنازع عليه مع جبهة بوليساريو المدعومة من الجزائر.
ووصف الملك القرار الإسرائيلي في رسالة جوابية بـ "الهام والصائب والمتبصّر"، وأنه "لقي ترحيبا واسعا من لدن الشعب المغربي وقواه الحية"، ولردّ الصاع صاعين، دعا الملك المغربي نتنياهو لزيارة المغرب.
وخلّف القرار الإسرائيلي داخل الساحة السياسية المغربية ردود فعلٍ متضاربة ما بين مؤيد له ومعارض ومضطرب وحذر وغامض. وبما أن الملك استبق الأحزاب بالقول إن القرار لقي تأييد قوى الشعب المغربي الحيّة، فقد بات الموقف من القرار بمثابة المحدّد للإصطفاف داخل تصنيف القصر الملكي "القوى الحية" داخل البلاد أو خارجها.
لذلك كان طبيعيا أن يأتي تأييد القرار الصهيوني ومباركته بطريقة تلقائية، من أغلب الأحزاب الممثلة في البرلمان، وفي مقدّمها أحزاب الأغلبية الحكومية والأحزاب المحسوبة على المعارضة الرسمية، وكلها ليس لها امتدادات شعبية تستمد قوّة وجودها على الساحة السياسية المغربية من قربها من السلطة وولائها لها ومباركتها قراراتها.
اما في المقابل،فقد قوبل هذا القرار بتنديد الهيئات السياسية والمدنية المعارضة للسلطة والمناهضة للتطبيع التي شكّكت في نوايا الكيان الصهيوني وحذّرت من مغبة الانجرار وراء التطبيع معه. وفي مقدّمة المعارضين جماعة العدل والإحسان، أكبر جماعة إسلامية مغربية لا تشارك في الحياة السياسية الرسمية، والأحزاب اليسارية المعارضة، خصوصا "النهج الديمقراطي" الذي يقاطع جميع الانتخابات، و"الطليعة"، و"فيدرالية اليسار" و"الاشتراكي الموحد"، الحزبين اليساريين الممثلين داخل البرلمان، بالإضافة إلى هيئات مدنية وحقوقية مناهضة للتطبيع.
وعلى الضفة الاخرى فقد تبدّى موقف الاضطراب والحذر والغموض لدى حزب العدالة والتنمية ،الذي قاد الحكومة ولايتين متتاليتين من 2011 حتى 2021 وتم التوقيع على اتفاقيات التطبيع في عهد حكومته الثانية عام 2020 ، بحيث التزم الصمت هو وذراعه الإيديولوجية حركة "الإصلاح والتوحيد" خوفا من غضب السلطة ضده وربما انتقامها منه وحرصا على عدم إثارة انتقاد قواعده المناهضة في أغلبيتها التطبيع.
وبعيدا عن مواقف الأحزاب والهيئات التي غالبا ما تتحكّم فيها مواقفها ومصالحها السياسية، يُعتبر القرارفي حد ذاته اختراقا كبيرا من الجانب الإسرائيلي في مسار تطبيع العلاقات الرسمية بين السلطات المغربية والكيان الصهيوني، ويحمل بين طيّاته مخاطر كبيرة ستدخل هذه العلاقات منعرجات خطيرة، يصعب معها العودة إلى الوراء. فالكيان الصهيوني لا يمنح أي شيء بدون مقابل، وعلاقاته مع الدول يبنيها على مصالحه، وأكثر من ذلك على مخطّطاته الإستراتيجية البعيدة المدى.
كما ان هذا لقرار الذي هلّل له المباركون جاء بطعم الابتزاز، وهو ما جاء في الرسالة التي حملت اشتراطات إسرائيل مقابل اعترافها بسيادة المغرب على إقليم الصحراء وتمثلت في عقد النسخة المغربية من اجتماع النقب الذي تضغط تل أبيب من أجل عقده على الأرض المغربية.
الكيان الصهيوني يعین ملحقا عسكريا له في المغرب
اضافة الى ذلك ، وبهدف رفع مستوى العلاقات بينها وبين المغرب إلى مستوى السفارات، رغم أن إسرائيل تعتبر تمثيليّتها في الرباط بمثابة سفارة، فقد سارع الكيان الصهيوني الى تعيين ملحق عسكري له في المغرب سيوكل له مهام أمنية واستخباراتية لا أحد يعرف أبعادها، وهو تعيين تزامن مع قرار الاعتراف وبدون استشارة السلطات المغربية التي التزمت الصمت رسميا بعد أن وضعها "حليفه الإسرائيلي" أمام أمر واقع!
أما جانب الخطورة في القرار الإسرائيلي فهو فتح قنصلية للكيان الصهيوني في إقليم الصحراء، ما سيمنح هذا الكيان موطئ قدم على أبواب الصحراء الكبرى يسهّل عليه مهمّة اختراق أفريقيا الغربية وربما يفتح شهية طمع الصهاينة الساعين دائما إلى نقل مشاريعهم السرطانية إلى هذه المنطقة على شكل مشاريع زراعية وتجارية واقتصادية.
وبالفعل بدأت بعض بوادر هذا الوجود الصهيوني على الأرض المغربية من خلال مشاريع استثمارية لزراعة المنتوجات التي يحتاجها الكيان الصهيوني، ويتطلب إنتاجُها مياها كثيرة يتم جلبها حاليا من الفرشات المائية المغربية التي شكلت على مر العصور خزّانا مائيا لسكان القرى والبوادي المغربية.
وبعيدا عن الأبعاد الجيوستراتيجية لهذا القرار وما يحمله من مخاطر تخدم مصلحة الكيان الصهيوني، أولا وأخيرا فإنه يبقى قرارا غير ذي موضوع من الناحيتين السياسية والقانونية عدا كونه مدانا أخلاقيا.
اما على الصعيد السياسي، فإن هذا القرارهو مجرّد قرار صادر من جانب واحد عن كيان محتل يفتقر هو نفسه الى كل شرعية سياسية. وقانونيا، لن يغير من الأمر الواقع شيئا، بما أن نزاع الصحراء ما زال معروضا أمام الأمم المتحدة التي تدعو في كل قراراتها إلى حل سياسي متوافق عليه بين أطراف النزاع.
واما من الجانب الأخلاقي، فيعدّ اعترافا بطعم المرارة حتى لا نصفه بما هو أقسى، لأن فيه ما فيه من الطعن للمبادئ والقيم والأخلاق التي تدعي السلطات المغربية الدفاع عنها تجاه القضية الفلسطينية وتجاه الشعب الفلسطيني.
فإسرائيل التي تعترف اليوم بسيادة المغرب على إقليم الصحراء تصنّف دولة احتلال ودولة عنصرية ودولة أبارتهايد (التمييز العنصري) قامت على الدم والاغتصاب، وعلى القتل والتدميروعلى التشريد والتهجير.
وخلاصة القول وكما يقال فإن فاقد الشيء لا يعطيه، ففي هذه الحالة ، الكيان الإسرائيلي هو الذي أخذ من دون أن يعطي أي شيء لأن ما أعطاه للمغرب مجرّد الوهم وهذا ما ستكشف عنه الأيام والسنوات المقبلة.
انتهى**ر.م