وشرح الکاتب المصري "ابراهیم نوار" في مقال نشرته صحیفة القدس العربي، الأسباب الرئيسية لقیام الکیان الصهیوني بشن العدوان على غزة ودوافع أمريكا وخاصة رئيسها جو بایدن في دعم هذا الکیان في إرتكاب جرائم ضد الشعب الفلسطيني.
وفيما يلي النص الكامل للمقالة:
قال بايدن كلمته في الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي خلال زيارته الأخيرة إلى تل أبيب، وأوصى نتنياهو بألا تكرر إسرائيل الخطأ الذي ارتكبته أمريكا في أفغانستان، وكان مضمون الوصية: "اقتلوا الفلسطينيين ولا تخطئوا القتل"! هذه وصية انتقام وليست وصية سلام، تبرهن على أن أقوى دولة في العالم، لا تعترف بالقانون الدولي، ولا تعرف القيم الإنسانية، وتدعو إلى البربرية والوحشية تحت شعار "حق الدفاع عن النفس" للمحتل على حساب صاحب الأرض المحتلة، بل إن بايدن يرى أن وصيته واجب يتعين على إسرائيل أن تقوم به، إنه لم يطلب وقف إطلاق النار، ولا فرض هدنة إنسانية، ولا وقف التهجير القسري للفلسطينيين، مع أن تهجير الفلسطينيين في العرف الإسرائيلي هو ترحيلهم من الموت إلى الموت. ولتأييد المعتدي المحتل، فإنه جمع لتأييده أقوى ما في ترسانته العسكرية من عدة وعتاد، بقصد حرمان صاحب الأرض من حق الدفاع عن نفسه، وحرمان أنصاره من الوقوف معه وردعهم.
هؤلاء الذين يتقاطرون على تل أبيب، لتهنئة المحتل المعتدي البربري، وتأييده في ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، بل إمداده بالسلاح لمواصلة جريمة إبادة الشعب الفلسطيني، يدافعون عن مصالحهم في استمرار نظام عالمي متوحش، لا يمت بصلة إلى القيم الإنسانية، ولا يرون في ما يحدث إلا مصلحتهم فقط، حتى لو كان تحقيق هذه المصلحة يتطلب جبالا من جماجم البشر، سواء في فلسطين أو في أوكرانيا، أو في ما يمكن أن نستيقظ عليه يوما ما في تايوان. إن حرب غزة تتحول تدريجيا إلى مواجهة لحسم المعركة الأخيرة في سقوط أو بقاء النظام العالمي الأحادي القطبية، وقيام نظام عالمي جديد متعدد الأطراف. حرب غزة لم تعد حرب الفلسطينيين فقط، ودفاعهم حقهم في تقرير مصيرهم، وإنما هم يدافعون أيضا عن مستقبل أفضل للبشرية، يقوم على الحق والعدل، ما يعني أن المؤمنين بالحق والعدل في العالم يجب أن يتضامنوا معهم.
مصيرهما مشترك: بايدن ونتنياهو
كذلك فإن حرب غزة، ليست مجرد رد على عملية طوفان الأقصى، وإنما هي تحمل في طياتها جانبا من جوانب المصلحة الشخصية، لكل من جوزيف بايدن وبنيامين نتنياهو. بايدن في انتظار حكم الانتخابات، ونتنياهو في انتظار حكم المحكمة. وقد وقع الاختيار على الأبرياء في فلسطين لكي يكونوا الضحية التي تدفع الثمن، إن هذه المصلحة الأنانية المشتركة بين نتنياهو وبايدن، هي واحدة من أهم الأسباب التي تفسر التحول الحاد في موقف الرئيس الأمريكي إزاء رئيس حكومة، اعتبرها هو قبل أشهر قليلة "أسوأ الحكومات وأكثرها يمينية وتطرفا في تاريخ إسرائيل". مصلحة بايدن الانتخابية أعمته عما قاله، وعما تمسك به من عدم دعوة نتنياهو إلى واشنطن، حتى عندما التقاه في نيويورك على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة الشهر الماضي. زيارة بايدن إلى تل أبيب كانت بمثابة انقلاب درامي في المشهد الأمريكي، فذهب بايدن بقدمية خاشعا إلى نتنياهو، يقدم له فروض الولاء في مطار بن غوريون. حرب إبادة الفلسطينيين ترتبط إذن ارتباطا عضويا بالصراع العالمي الدائر بين قوى الدفاع عن النظام العالمي الأحادي القطبية وقوى إقامة نظام عالمي متعدد الأطراف، كما ترتبط بمصالح شخصية لكل من رأس الحكم في إسرائيل وفي الولايات المتحدة، ولذلك فإنه ليس من الجائز أن تختلط فيها الرؤية، وأن تنحصر فيها المواقف عند حدود ما يحدث على السطح، وليس من الأخلاقي أن يقف العالم مكتوف اليدين أمام حرب تتم فيها إبادة شعب على مرأى ومسمع من العالم كله. إن محاولة إبادة الشعب الفلسطيني إذا نجحت؛ فإنها ستكون عنوانا لعالم ما بعد حرب غزة الصامدة، ستكون عنوانا لفصل أسود دموي في تاريخ البشرية، تحكمه وتسوده القوة الغاشمة فوق القيم والقانون، ويجب أن نعلم أن الحرب في غزة ليست كمثلها في أوكرانيا، فنتيجة حرب أوكرانيا ستغير التوازن في أوروبا، وليست مثل ما يمكن أن نستيقظ عليه ذات صباح في تايوان، فنتيجة حرب محتملة على تايوان ستغير التوازن على جانبي المحيط الهادي.
تدمير ما تبقى من النظام العالمي
على الرغم من كل عيوبه، فإن الولايات المتحدة وإسرائيل أصبحت لهما مصلحة مشتركة في تدمير كل ما تبقى من النظام العالمي القائم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. ومنذ اللحظة الأولى في الفصل الحالي من فصول الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، تسعى كل من واشنطن وتل أبيب إلى إبعاد الأمم المتحدة تماما عن عملية اتخاذ القرار في مسار المبادرات الإنسانية والسياسية المطروحة، وأن يتم اتخاذ القرار من خلال تنسيق مباشر مع حلفائهما، بما في ذلك الدول العربية التي تربطها علاقات مع إسرائيل. وقد وقفت واشنطن بكل عناد ضد أي دعوة لوقف إطلاق النار، وضد أن يتمكن مجلس الأمن من إصدار قرار في هذا الشأن، لأن ذلك من شأنه أن يقيد استخدام القوة الغاشمة، وأن يضع حكومة الحرب الإسرائيلية وجها لوجه أمام جريمتها، وأمام المساءلة في المحكمة الجنائية الدولية، وبدلا من الأمم المتحدة فإن واشنطن وتل أبيب تعاونتا على إقامة منظومة، تستبعد من أهدافها السعي لوقف إطلاق النار، أو اتخاذ أي خطوة لوقف عملية إبادة الشعب الفلسطيني، وتعمل على تحويل دفة الدبلوماسية الدولية تجاه الاكتفاء بإقامة "ممر للمساعدات الإنسانية"، ذرا للرماد في العيون، ممر تحكمه إسرائيل من الجانبين، المنبع والمصب. هذا الممر من دون وقف إطلاق النار ليس إلا مجرد مركز لتقديم بعض الضمادات لجرحى الحرب، وبعض الأكياس البلاستيكية لجثث الضحايا وفتات الطعام للجوعى المحاصرين بلا مأوى. إن الشروط الأولية لإقامة "ممر إنساني" هي وقف إطلاق النار، وإنهاء الحصار، وإطلاق إمدادات الماء والغذاء والدواء والوقود والكهرباء، وبدء عملية سلمية حقيقية لإقامة تعايش بين الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي.
إن إغلاق قطاع غزة وقطع الإمدادات عنه وإغلاق المستشفيات، وإجبار السكان على الرحيل عن مساكنهم عنوة، بمن فيهم المرضى والعجزة والأطفال والنساء وكبار السن، هي كلها جرائم ضد الإنسانية. كل منها يمثل جريمة قائمة بذاتها طبقا لنص الفقرة (ج) من المادة الثانية من معاهدة منع أعمال الإبادة البشرية لعام 1948. وإذا كان بايدن ينصح إسرائيل بألا تقع في الخطأ الذي وقعت فيه الولايات المتحدة بعد 11 سبتمبر، فإنه في حقيقة الأمر لم يتعلم الدرس، ويريد من الآخرين أن يكونوا أغبياء مثله، ؛ فهو يتجاهل حقيقة أن جورج بوش الابن اختار طريق الحرب الغاشمة على أفغانستان. وبعد عشرين عاما من الحرب، خرجت القوات الأمريكية من كابول مهزومة خائبة ذليله.
منظومة جديدة للدبلوماسية الدولية
وقد أدارت الولايات المتحدة عملية إنشاء "ممر المساعدات الإنسانية" بالتنسيق مع إسرائيل، وأوكلت إليها مسؤوليات التنسيق اليومي مع الدول والأطراف الأخرى، بمشاركة منسق الأمم المتحدة للعمليات الإنسانية مارتن غريفيث، والمبعوث الأمريكي الخاص للمساعدات الإنسانية للشرق الأوسط ديفيد ساترفيلد. هذا يؤكد أن الولايات المتحدة وإسرائيل والقوى المنحازة لهما تعمل على تجاوز النظام العالمي القائم، وجعله مجرد ترتيبات هامشية، لا تمت بصلة إلى ما يحدث على أرض الواقع. إن ما يحدث في ترتيبات إقامة وإدارة "ممر المساعدات الإنسانية" عبر بوابة رفح، يجب أن يكون جرس إنذار ينبه العالم إلى خطورة المقبل، وأن الأسوأ لم يأت بعد. ستظل واشنطن وتل أبيب ضد أي دعوة لوقف إطلاق النار، وستمضي الولايات المتحدة إلى أبعد مدى ممكن في تقديم الإمدادات العسكرية والمالية والدبلوماسية لإسرائيل، وسينظر بايدن إلى عملية إبادة الشعب الفلسطيني، على أنها مجرد ثمن زهيد لبقاء النظام العالمي الأحادي القطبية، ولهذا فإن نصيحته إلى إسرائيل في حرب الإبادة هي "اقتلوهم ولا تخطئوا".
وعلى ضوء معطيات اللحظة الراهنة فإن حرب المقاومة ضد القوة الغاشمة في غزة والضفة الغربية، كلما طالت ستجذب إليها أطرافا أخرى وتصبح حربا متعددة الجبهات، وهو ما تسعى إليه إسرائيل لجر الولايات المتحدة إلى التدخل المباشر، ورغم ذلك فإنها أيضا حرب كلما طالت تصدع المجتمع الإسرائيلي أكثر فأكثر، واكتشف اليهود خدعة الصهيونية الدينية المتطرفة، وعقم سياسة القوة الغاشمة. وهي حرب كلما طالت ستأكل قوة الولايات المتحدة أكلا، وتنتهي إلى هزيمة مدوية لها. وهي حرب سترسم نهايتها خريطة توزيع القوة في العالم حتى نهاية القرن الحالي على الأقل. وقد كُتِب على الفلسطينيين القتال؛ فليقاتلوا بشرف وكرامة، وإنهم بعون الله لمنتصرون.
انتهی**3280
تعليقك